تعتبر الشهرة صفة متسامية تخلق في نفس الإنسان مع ولادته فنرى الطفل يولد يحب أن يظهر ذاته ويتصدر على أقرانه ونرى الطالب يجتهد ويتفوق ليتميز عن ذويه، ونرى الشباب يتنافسون في هواياتهم ليلمع نجمهم، ونرى الراشدون يبدعون في عملهم ليرتقوا على زملائهم، وكذلك المفكرون والمصلحون ليحفروا اسماءهم على جدران التاريخ.
فنلاحظ تدرج الشهرة على مر التاريخ والأجيال، فتكون الشهرة على مستوى العائلة، والحي، وفي مرحلة ثانية على مستوى المجتمع، والدولة حتى تتصدر الشهرة على مستوى العالم.
وتدعم الشهرة عدة وسائل بدايةً من منصات الخطابات، والمناصب إلى الراديو والتلفاز وصولاً لوسائل التواصل الاجتماعي والتي أطلق عليها مصطلح الشهرة الرقمية، حيث تحولت وسائل التواصل في القرن الحادي والعشرين إلى مركب يعتليه القاصي والداني بتغير الأهداف وبتنوع الغايات فعلى مر القرون الماضية كانت الشهرة وسيلة لنقل الرسائل والتأثير بالمجتمع ولتحقيق أهدافاً اجتماعية أو تربويةً او سياسيةً أو اقتصادية أو ثقافية لتتحول الشهرة الرقمية بعدها لغاية خالية الأهداف والرسائل فترى ذاك المشهور يعتلي منصته ليصدر للجمهور أشكالاً متنوعة من المحتوى الأجوف لا نستطيع وصفه إلا بالتفاهة.
وهنا نضع وصفاً عن هذا الداء نستعرض تشخيصه ونحلل أسبابه لنطرح حلولاً لهذا الوباء الذي تسارع انتشاره ليشمل القاصي والداني، وتدخل الشهرة الرقمية كل بيت وأسرة وخيمة على امتداد البلاد على حساب العادات والقيم والثقافة الاجتماعية.
وعلى الرغم من أن التعميم لا يتوافق مع مبادئ المنهج العلمي، فإن الواقع يعكس أن السبب وراء شهرة الكثيرين على وسائل التواصل الاجتماعي يرجع إلى طبيعة المحتوى الذي يُقدمونه على تلك المنصات والذي يتسم في أغلبه بالسطحية والتفاهة، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تخطاه إلى لجوء البعض إلى تقديم محتوى غير أخلاقي سواء من حيث الشكل أو المضمون أو كلاهما معًا.
وحتى نستطيع توصيف هذه الظاهرة سنعود لأسباب هذه الظاهرة من عدة جوانب:
من منظور #فكري:
1.ضعف كبير في الثقافة المعلوماتية وكذلك العلمية لدى عامة الناس؛ فالجهل الذي يعاني منه أغلب الناس، ليس جهلاً على مستوى الأدوات مع وسائل التواصل، إنما هو جهل على المستوى الفكري والمعرفي. فإن شئنا التدقيق أكثر قلنا: إن الغالبية من الناس توظف وسائل التواصل فيما لا نفع فيه، أو لا استفادة تؤخذ منه، وهذا يجعلنا نؤكد وبشدة على أن الناس يستخدمون مواقع التواصل دون الإلمام بالغاية من اختراعها.
2.انتشار الجهل يجعل الناس تذهب إلى كل ما هو تافه، أو كل ما هو ذا محتوى مخل بالحياء أو بالقيم الأخلاقية والدينية.
3.استغلال العقول البسيطة لجني المال عبر كسب الاشتراكات وتسجيلات الإعجاب مع تقديم محتوى فاضح فندرك أن هناك فئة تعي أن بعض الناس لا تسير على الطريق الصحيح فتستغل ضعف ثقافتهم وتدفعهم إلى الانحراف مقابل المال.
4.ميل الغالبية من الناس إلى متابعة المحتويات الترفيهية طول الوقت وإهمال الجانب التثقيفي والتوعوي والتعليمي داخل وسائل التواصل.
5.موت العقل أو بتعبير آخر اضمحلال العقل في حضور النقل، فتصبح الثقافة المنتشرة هي ثقافة النقل وحسب.
6.السبب الأخير والأخطر: معاناة الفئة الساحقة من الناس في العالم العربي من شيزوفرنية لا علاج لها في الطب النفسي، اللهم إلا إذا تمت هيكلة العقل من جديد داخل الثقافة العربية عبر تربية جيل جديد. فالشيزوفرنية التي أتحدث عنها هي نتاج لثقافة ممزقة المعالم، غائبة الهوية، فاقدة للمعنى.
وإذا أردنا بحث هذه الظاهرة من منظور #نفسي:
كوسيلة جماهيرية نجد التعامل معها يتفق مع ما طرحه أحد أعمدة علم النفس الجماهيري غوستاف لوبون الذي يرى "أن الجماهير لا تعقل، فهي ترفض الأفكار أو تقبلها كلاً واحداً من دون أن تتحمل مناقشتها" ففي الحالة الجماهرية تنخفض الطاقة على التفكير ويذوب المغاير في المتجانس، بينما تطغى الخصائص التي تصدر عن اللاوعي.
ومن منظور #سياسي:
حيث يرجع انحطاط الشهرة الرقمية وسيطرة التفاهة إلى نظام العولمة السائد الذي يسيطر على الشعوب ليحرفهم عن أهدافهم الحقيقية ويضللهم عن هويتهم ويبعدهم عن الحلم المنتظر فقال الان دونو:
"نظام التفاهة إذن لم ينتج صدفة بقدر ما هو نظام مقصود، يؤسس لسلطته ويهدف إلى نشر التفاهة وإسباغها على كل شيء. وهذا الأمر سهل التحقق خاصة وأن اللاشعور الجماعي أصبح يرزح تحت وطأة ثنائية الحلال والحرام، الحداثة والتقليد، الرجعية والتقدمية.."
الشهر الرقمية #نعمة أم #نقمة؟:
ويبقى التساؤل هل الشهرة الرقمية هو الشيطان السائد في هذا القرن؟
فنقول لا يمكننا الباس السواد على الشهرة فتكون سلبية بحتة، فللشهرة جانبها المشرق الذي يتحدث عنه الكثيرون بات جلياً على مر العصور.
1.سهولة إيصال الرسالة: فللشهرة جانباً إيجابياً بالوعي والتغيير حيث إن القيم الوجدانية لا تكاد يتبناها الفرد إلا من قدوة يحتذيها ويسير على نهجها لذلك يستطيع المشهور أن يزرع ما يشاء من قيم وفكر ومعتقدات في متابعيه.
2.سرعة الكسب الاقتصادي: فالشهرة باب من المال يُخدق على صاحبه بالكثير، لكن هذا المال لا يكون سليماً إلا بسلامة الهدف، فإذا صلح مقصدك بالشهر صلح المال وخير المشاهير من يسخر مالهم لمنفعة مجتمعهم ومعتقدهم.
3.سهولة الوصول: والمشاهير تفتح لهم معظم الأبواب (السفارات، الطائرات، المكتبات) فينهل ما يشاء من خلف تلك الأبواب، ويصدر ما يشاء إليها وخير المشاهير ما أخذ ما ينفعه من علم ومعرفة وأعطى الصورة الرزينة والقيمة الصحيحة عن مجتمعه وطرق الأبواب ليدافع عن قضايا أمته.
#مشاهير من التاريخ:
ولو طوينا الصحف لنتفحص مشاهير التاريخ المخلدين
لوجدنا في أول صفحة النبي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يعد أعظم شخصية مرت عبر التاريخ فلم تكن الشهرة غايته، بل كان الإصلاح والتغيير هي الغاية فأشهره الطريق الصحيح وخلده أما غيره ممن عادوه اندثرت أخبارهم وهمشوا.
ولو بحثنا أيضاً لوقفنا عند عمر بن الخطاب الذي اشتهر بعدله وحكمته لا بشيء سواه، وتبعه من بعده عمر بن عبد العزيز على نفس الخطى فحكم ما لا يزيد عن سنتين فدونت سجلات عن عدله وحكمته وصلاحه ولم يشتهر بغير ذلك.
حتى الأئمة الأربعة (أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل)، لمعت شهرتهم في المشرق والمغرب لعلمهم ورجاحة فكرهم وطوى الدهر سيرة من كفرهم وعاداهم كالمعتزلة وغيرهم، وأبو بكر الرازي وابن الهيثم والطبري والادريسي و....، كلهم مشاهير مازال علمهم يدرس في جامعات الغرب قبل العرب لمع نجمهم بالعلم والعمل لا بتفاهة أو مجون
وحتى المشاهير على مستوى الغرب: توماس إدسن، أينشتاين، أرخميدس، نيوتن، تيسلا، كلهم خلدوا لما وصلوا إليه من علم ومنفعة لا لحماقة أو تفاهة.
ولو واصلنا البحث لظهر لدينا الكثير فما الذي جعل من كل هؤلاء مشاهير مخلدون ولم يجعل من غيرهم نجوماً ينافسوهم؟!
نعم هي القيم والمعتقد والمنفعة لمجتمعهم وأمتهم فلا يغركم كثرة المشاهدات والمتابعات والإعجاب فما هو نافع للمجتمع يخلد وما هو لهو وعبث يُنسى .
وفي #الختام:
تتناقض الآراء بين نعمة ونقمة الشهرة الرقمية فلا نجزم باستحواذ التفاهة عليها إلا أننا لا ننكر الجانب الإيجابي منها وخصوصاً من استثمر الشهرة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي لنصرة قضاياهم والدفاع عن حق شعوبهم المسلوب
ومن هذا المنطلق علينا أن نسعى لتحويل الشهرة الرقمية من مستنقع الأهداف والتفاهة إلى أداة فاعلة في بناء المجتمع وتحفيز الشباب وتغيير الواقع نحو الأفضل.
•الشهرة مقابل القيم الأخلاقية على المنصات الاجتماعية، مركز القرار للدراسات الإعلامية.
•وسائل التواصل الاجتماعي وأيديولوجيا التفاهة ، ياسين الطحشي.
•محاضرة وسائل التواصل الاجتماعي الفوضى سيدة الموقف ، معهد الجزيرة الإعلامي.
•(كتاب نظام التفاهة ، آلان دونو).
كتابة: محمد المصطو
مراجعة: نور نبهان
التعليقات